المعتزلة الجدد.. قنطرة وصل بين العالمين الشرقي والغربي

أدرك العرب المسلمون منذ مطلع عصر النهضة أهميّة النقد، باعتبار أنّ مراجعة الموقف من الماضي ومن السلف مراجعة نقديّة شرط من شروط التخلّص من حالة التخلّف الحضاري عن الحضارة الغربيّة خاصّة؛ ولهذا أشاد محمد عبده بالنقد معتبرا أنّه “نفثة من الروح الإلهي في صدور البشر تظهر في مناطقهم سوقا للناقص إلى الكمال وتنبيها يزعج الكامل عن موقفه إلى طلب الغاية ممّا يليق به”، وقد كان مصلحوعصر النهضة، وفي مقدّمتهم محمد عبده، واعين بأنّ النقد مسلك أساسي يترتّب على سلوكه توسّع المعارف والعلوم وتفتّق القرائح وتيقّظ الأذهان “فلولا الانتقاد ما شبّ علم عن نشأته، ولا امتدّ ملك عن منبته، أترى لوأغفل العلماء نقد الآراء وأهملوا البحث في وجوه المزاعم أكانت تتّسع دائرة العلم؟ وتتجلّى الحقائق للفهم ويعلم المحق من المبطل”.

إنّ النقد خروج عن السائد والمستقرّ من المسلّمات والبديهيّات، إنّه إبداع خلاّق ينشئ أفكارًا جديدة قد تستهجن في البداية، لكنّها ما تلبث أن تنضج وتكتسب أنصارا وتأخذ في التوسّع إلى أن تصل إلى حدّ اختراق المنظومات المنافسة السائدة وإزاحة الأفكار القديمة التي أسبغت عليها ظلال من القداسة، الفكر النقدي إذًا، هو فكر إشكالي شكّاك يطرح الأسئلة المحرجة ويراجع الآراء الموروثة والتصوّرات الرائجة والمستقرّة، ويسعى إلى بناء أفكار جديدة قد تكون لبنات لنظريّة في الفكر أو في الاجتهاد الديني أو السياسي أكثر استقامة وعدلا ومثالية في نظر أصحابها من النظريات السائدة، أو أكثر قربا من الناس، وَأَوْفَى التزاما بقضاياهم.

البدايات
ترجع بداية ظهور المعتزلة الجدد أو ما يسميه البعض بالعقلانيين أو العصرانيون الى جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده وتلامذته والذين عرفوا فيما بعد بالمدرسة الإصلاحية؛ ذلك لتبنيهم تأويل بعض النصوص الدينية بما يتوافق مع العصر الحديث.

ويرى البعض أن جمال الدين الأفغاني هو مؤسس هذه المدرسة حيث إنه- كما تشير الكثير من المصادر- باعث نهضة الشرق وزعيمها في أواخر القرن التاسع عشر، وكان مقاومًا للاستعمار الغربي، ومفجرًا لروح الحرية في الشرق.

بينما يرى كثيرون أن المؤسس الحقيقي لهذه المدرسة هو تلميذه محمد عبده، حيث سار على طريق الإصلاح في المجالات المختلفة: التعليم والقضاء، وأصلح الأزهر، وعمل على إحياء كتب الأوائل.. إلخ.

واتجه محمد عبده بعد عودته من المنفى إلى التقريب بين الإسلام وبين الحضارة الغربية، واتخذ اتجاهه هذا أشكالا مختلفة، فظهر أحيانا في صورة مقالات أو مشاريع أو برامج تدعو إلى إدخال العلوم العصرية في الجامع الأزهر، وظهر تارة أخرى في صورة تفسير لنصوص الدين من قرآن أو حديث يخالف ما جرى عليه السلف في تفسيرها، ليقرب بها لقيم الغرب وتفكيره، لكي يصل آخر الأمر إلى أن الإسلام يساير حضارة الغرب ويتفق مع أساليب تفكيره ومذاهبه.

ويقول الكاتب الألماني توماس هيلد براندت مؤلف كتاب “المعتزلة الجدد” وهو أول من دشن هذا المصطلح: إنَّ مفهوم المعتزلة الجُدُد لا يدل على تيار فكري مُعين أو معسكر يُمكن تسميته بهذا الاسم، وفي مُحاولة لإعطاء هذا المصطلح المطاطي شيئًا من التحديد، وَضَعَ الكاتبُ عِدَّة معايير للحكم على أحد المفكرين بانتمائه العام لهذا التيار موضوع البحث، وهي:

1- اهتمام الكاتب عن طريق التَّأليف والكتابة عن المعتزلة، مع تأييده لبعض أفكارهم، أو الدعوة إلى إعادة التفكير فيها من جديد، أو الحديث عنها بشكل إيجابي، ذكر من هؤلاء “أحمد أمين، محمد عبدالهادي أبوريده، علي مصطفى الغرابي، زهدي جار الله، البير نصري نادر والمغربية فاطمة ميرنيسي”.

2- الكُتَّاب الذين يتناولون قضايا مثل حرية الإنسان، وتقديم العقل، وغيرها من المفاهيم المتقاربة مع فكر المعتزلة والمتأثرة بها بطريق غير مُباشرة، ولكن بأسلوبِ الكاتب ولغته الخاصَّة، من هؤلاء: “الرّوائي محمد كامل حسين، هشام جعيط، الطالبي، محجوب بن ميلاد، خلف الله وحسن حنفي، كما ذكر من بينهم سيد قطب والمودودي”، وقد ذكر المؤلف أنَّ هذا المعيار أوسعُ من المقصود، حيثُ إنَّ القائمة التي نتجت من تطبيق هذا المحدد على المفكِّرين العرب قد أنتجت مُثقَّفين من جميع التيَّارات، ربَّما كان بعضها مناوئًا تمامًا لمدرسة المعتزلة، وفي إشارةٍ تدُلُّ على الحرص في تتبُّع المفهوم في الوسط العربي، فقد أشار الكاتب إلى ما كتبه محمد العبده، وطارق عبدالحليم عن المعتزلة، ورصدهم للمعتزلة الجُدُد، وقد نَبَّه المؤلف إلى أن الكاتِبَيْن- السنِّيَّيْن- قد استعملا مصطلحَ المعتزلة الجُدُد بمعنى سلبي.

3- الكُتَّاب الذين يؤمنون بأفكار المعتزلة، لكنَّهم لا يُصرِّحون بذلك لأسبابٍ تكتيكية- حسب تعبير الكاتب- وقد ذكر أنَّ أوضح مثالٍ لهذا الصنف هو مُحمد عبده، حيثُ وَصَفه بمحاولة إيجاد طُرُق وصياغات وسطية بين الأشاعرة والمعتزلة؛ مما أدَّى إلى إخفاء تأيِيده للمعتزلة صراحة، وقد ذكر في هذا السِّياق موقفَ جابر عصفور أثناء تأييده لتلميذه نصر حامد أبوزيد، ممثلاً الصِّراع بينه وبين مُخالفيه على أنَّه صراع بين أهل العقل “المعتزلة” وأهل النَّقل.

4- الكُتَّاب الذين يقرُّون صراحةً بانتمائهم إلى مدرسة الاعتزال، وقد رأى المؤلف أنَّ قلة من الكتاب يتَّخذون هذا الموقف الصَّريح لعدة أسباب، منها أنَّ سمعة الجماعة خلال القرون الماضية تثبِّت في عقول المسلمين فكرةً سلبية عن المدرسة والمنتسب إليها، كما أشار إلى أن معنى كلمة الاعتزال وما تحويه من انغلاق وتفريق للأُمَّة جعل الاتِّصاف بها غير مرغوب فيه لدى كثير من الناس، إلاَّ أنَّه أشار إلى أن السير أحمد خان، وحسن حنفي، من هذه القلة التي تعلن عن تأييدها وانتمائها الفكري إلى هذه المدرسة، وقد تزايدت هذه الدَّعوى في السنوات الماضية، فقد تَحدَّث بها كثيرون.

وتلك الأصوات كانت وما زال الكثير منها يسعى لإعادة إحياء الفكر المعتزلي والتعريف به بعد أن صار غائبا أو نخبويا على أحسن الأحوال، مؤسسة بذلك لفكر معتزلي حديث دون الانفصال عن مرتكزات خطابات آبائه المؤسسين بدأت عملية إحياء التراث المعتزلي حسب الدكتور “هيلدبرانت” في سوريا مع طاهر الغزالي، جمال الدين القاسمي ومحمد كرد علي؛ ليصل ذلك ذروته بين العشرينيات والستينيات من القرن الماضي مع أحمد أمين، وبعد فترة الستينيات مع أسماء عديدة كزهدي حسن جار الله، قدري حافظ توقان والشيخ بوعمران، فالإسلام كما يتمثله المعتزلة الجدد لا يجب اختزاله في الإيمان، العقيدة والتعبد لأنه يتجاوز كل ذلك إلى ممارسة سياسية / اجتماعية وإلى خطاب يشجع على إعمال العقل وعلى التحرر من معيقات ذلك، لتحقيق ذلك عمل المعتزلة الجدد على إعادة إحياء مرتكزات الفكر المعتزلي القديم كمفاهيم: “العدل والتوحيد”، “الحرية والعقل” وربطها بمبدأ “الاختيار”. خلافا للخطاب المعتزلي الكلاسيكي، فالمعتزلة الجدد لم يجعلوا مواضيع الآخرة والجزاء والعقاب في صلب اهتماماتهم.. ما يأخذ حيزا كبيرا في الفكر المعتزلي الحديث هو تذكير المسلمين بأن العديد من القيم التي يتم التعامل معها كالحرية والعقلانية على أساس أنها قيم غربية هي قيم لها جذور في البنية الإسلامية، قصدهم في ذلك الرغبة في إيصال رسالة مفادها أنهم لا ينادون بأشياء غريبة عن البنية الإسلامية بل بقيم إسلامية تم التخلي عنها.
من جهة أخرى فالفكر المعتزلي الحديث- كما يرى الدكتور “هلدبرنتد”ـ عبارة عن قنطرة وصل بين العالمين الشرقي والغربي.

بواسطة
حسام الحداد - مصر
المصدر
مقال الرأي يُنشر في الجريدة ويعكس في الأساس رأي الكاتب حول الموضوع الذي كتبه ولا يعبر بالضرورة عن صوت المواطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق