فعل الروح (1 – 3)

الحديث عن “الجنس” أصبح قضية لا يمكن السكوت عنها الآن، في ظل التحرش الجنسي بالصغار والكبار، وخطر “الغواية” في عصر الصورة، الذي يشجع على الاضطرابات الجنسية والزنا والتحرش والاغتصاب والخيانات والعزوف عن بناء أسرة.
إنها قضية لا ترتبط بالشهوة والغريزة فقط بقدر ما تتعلق بحاجات إنسان وعلاقته مع إنسان آخر، وضوابط العلاقة بين الجنسين، وجوهر الأسرة كلبنة أساسية للنظام الاجتماعي.

فعل روحي
إن “الجنس” مثل التنفس!
فهو سلوك يؤدي للتكاثر، ووظيفة أساسية عند كل كائن حي، من نبات أو حيوان أو إنسان، وهو رئة الكون التي تتجدد من خلالها الكائنات الحية على سطح كوكب الأرض، لكنه يختلف بالنسبة للبشر لأنه ينطوي على علاقة إنسان بإنسان، وله شقين هما: الجانب العاطفي والجانب الجسدي.
وتشير (الشهوة الجنسية) إلى إحساس عضوي كالجوع والعطش يدل على حاجة الفرد، ذكرًا كان أو أنثى إلى الجماع، وهي عملية ناتجة عن دافع غريزي بهدف التكاثر وحفظ النوع. وقد تحول هذا الدافع الغريزي في واقعنا الراهن إلى شكل أدنى من العلاقات القائمة على اللذة فقط.
لذلك نجد في المنظور الإسلامي أن النظر بشهوة لمرأة أجنبية حرام، والزنا حرام، حتى لا يكون الجنس علاقة عابرة مارقة أو مؤذية للروح والجسد، لا تبني مجتمعاً متحضراً، يمتلك أخلاقيات الترابط والتعاون والعمل من أجل الحياة وإستمراريتها ونموها وتطورها.
وإذا كان ذلك كذلك!، فإن نظرة فرويد للجنس لم تكن إنسانية، عندما حثَّ على تنمية الغريزة وإبطال العقل، كما أن محبتنا لأبنائنا وأزواجنا ترفع من قيمة الفعل، فيصبح الجنس في هذه المحبة، فعلاً روحيًّا بامتياز، وليس مادياً بحتاً، ويتم في إطار الأسرة والزواج بما يحوله إلى محبة وتعاطف بين روح وروح، عقل وعقل.
أما الإنسان الذي يسيء استعمال قواه الجنسية فهو يظلم نفسه ويسيء إليها، وإلى الوجود، والآخر.

الاضطرابات الجنسية
قد تعبر ممارسات “الجنس” عن اضطرابات نفسية أو إيذاء للآخر، بما يجعله فعلاً مادياً فقط يحقق المتعة لأحد أطرافه، وقد يؤذي أحدهما أو كلاهما في نهاية المطاف. وتشتمل الاضطراباتُ الجنسية الأكثر إنتشاراً على:
– المازوشية والسادية الجنسية: وتنطوي على أذى جسدي أو نفسي، وربما تفضي إلى الموت، ومعظمُ المصابين بهذه الاضطرابات يكون لدى بعضهم اضطراب سلوكي شَديد، مثل اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع أو اضطراب الشخصية النرجسية.
• عِشق الأطفال: تصنف البيدوفيليا أو اضطراب اشتهاء الأطفال كاضطراب عقلي عندما يكون الشخص ذو التوجه الجنسي يعيش هذه الرغبة- أو على الأقل يعاني بسببها، كما يصنف على أنه اضطراب نفسي يتميز بالانجذاب والميول الجنسي للأطفال من كلا الجنسين، ويوجد لدى العديد من هؤلاء الأشخاص اضطراب الشخصية المعادي للمجتمع.
• اضطراب الاستِعراء: الشخص الذي يعانى من الإستعراء يقوم بتعرية أعضائه التناسلية أمام الغرباء أو الأطفال رغبة فى الشعور بالإشباع الجنسى عن طريق إدهاش وإبهار الآخرين، وتكون الضحيةُ هي امرأة أو طفل.
• اضطراب التلصُّص: لا يسعى المصابون بهذا الاضطراب إلى الاتصال الجنسي مع من يُبَصبِصون عليهم بل إلى رؤية الآخرين عرايا أو استراق النظر من خلف الأبواب أو حتى بمشاهدة مجلات أو أفلام خليعة تتحقق الاستثارة الجنسية من خلالها، بما يعني إهمال الحياة والمسؤوليات.
• لِبسَة الجِنس الآخر: في هذا الاضطراب، يفضل الرجال ارتداءَ ملابس النساء، أو تفضل النساء ارتداء ملابس الرجال، لكنهم لا يرغبون في تغيير جنسهم، مثل المتحولين.

إرواء العطــش!
دعا القرآن الكريم إلى الحلال الطيب وذم الطغيان في الشهوات، فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} (المائدة: 87–88]).
ولا يكون الإنسان قبل البلوغ مكلفاً، ولا توجه له الأوامر الشرعية، فإذا بلغ – أي حينما تستيقظ الغريزة الجنسية سواء كانت للذكر وعلامتها خروج المني منه أو للمرأة وعلامتها بدء الحيض- هنا يصبح الإنسان مكلفاً من الناحية الشرعية.
وقد ألف ابن طاووس كتاباً اسمه (التشريف ببلوغ سن التكليف)، وفيه رصد لنفسه في أي يوم أصبح بالغاً، وفي أي سنة، وكان يحتفل كل عام ببلوغه، شاكراً على هذه النعمة لأنه أصبح مكلّفاً مخاطباً من الله سبحانه وتعالى ببلوغه، أي عند بدء الغريزة الجنسية.
ويمكننا وصف السياسة الجنسية في الإسلام بالوسطية بين الإباحية القديمة والحديثة من جهة وبين الرهبانية التي تكبت هذه الغريزة من جهة أخرى، فالإسلام ينظم الحياة الجنسية عن طريق نظام الزواج وتشريعاته، وينظم العلاقةَ بين الرجل والمرأة.
يقول علي عزت بيغوفيتش -رحمه الله- في مقال بعنوان: (المرأة بين المجتمع الإسلامي والمجتمع الغربي):
“إن الإسلام لا يرفض الحياة الجنسية، لأنه يدعو إلى حياة طبيعية وسعادة الحب، بقدر ما يدعو إلى صحة البدن والقوة والشجاعة والجهاد وكسب المال، ولأنه يعارض الإعراض عن الدنيا كما يعارض الإسراف فيها. يطالبنا الإسلام بجني (الثمار السماوية) إضافة إلى (الثمار الأرضية) ويسمح للإنسان أن تمتد يداه – اللتان رفعتا إلى الله متذللة بالدعاء قبل قليل – نحو مسرات الدنيا، ولا يسعى الإسلام لإقامة جدار يحوط جميع الأنهار التي يمكنها إرواء العطش. ولا يطالب بالقضاء على الشهوات، بل يطالب بالسيطرة عليها، ولا يسعى لقطع الشهوة الجنسية، لكنه يضع لها الضوابط والحدود”.
ويرى المفكر الإسلامي ورئيس جمهورية البوسنة والهرسك السابق، رحمه الله، أن المجتمع الأوربي أصبح تحت تأثير متزامن لفلسفتين متناقضتين: الفلسفة المسيحية المعادية للحياة الجنسية، والفلسفة المادية الداعية إلى التمتع بكل ما في هذه الدنيا، وبما أن الخيار المسيحي مستحيل البلوغ في واقع الحياة – فإن الغلبة كانت لا محالة من نصيب الفلسفة الثانية، فيما ظل الإسلام يبحث ويجد طريق الوسطية في الحياة الجنسية شأنه في بقية أمور الحياة؛ لأن الإسلام كان وبقي فلسفة الممكن في الحياة.
ولا يرغب الإسلام في الزواج فحسب، بل يدعو إلى تيسيره، ومراعاة الحياة الزوجية، كما يعد الجماع صدقة وعبادة، ففي الصحيحين أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (وفي بُضْع أحدكم صدقة). قالوا: يأتي أحدُنا شهوتَه ويكون له فيها أجر!. قال: (أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟). قالوا: نعم، قال: (وكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر). ثم قال: (أفتحتسبون الشر ولا تحتسبون الخير!).

بواسطة
حمدي عبد العزيز - مصر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق