مشاعل.. في تاريخ الفكر الإسلامي

ابن عـربي.. و"فصـوص الحكـم"

“أما آن لنا، نحن العرب، من لحظة تأمل في تراثنا الحضاري الإسلامي.. لحظة ندرك من خلالها هذه اللمحات المضيئة، التي ساهم بها العديد من المفكرين العرب والمسلمين، في هذا التراث؛ لا لكي نرتكن إليها، ولكن من أجل الاسترشاد بها في “إعادة بناء” المستقبل، هذا الذي لن يُبنى إلا بالاعتماد على “الطيب” في تراثنا أولًا، و”الصالح” من منجزات العصر ثانيًا”.

ابن عربي، هو أبو بكر محمد بن عربي الطائي (نسبة إلى قبيلة طيء العربية)، ولد في مدينة مرسية في جنوب شرق الأندلس (عام 560 هـ/ 1164 م). وبدأ في طلب العلم ودرس علوم القرآن والحديث والفقه على بعض اتباع الفقيه الأندلسي ابن حزم، كما التقى بفيلسوف قرطبة ابن رشد. وقد لُقِب بـ”محيي الدين” وبـ”سلطان العارفين” تعبيرًا عن منزلته الصوفية والعرفانية.

وابن عربي شاعر وصوفي وفيلسوف، ويُعَّدُ من كبار مفكري الإسلام، وأكثر متصوفيه تأثيرًا، بعد جلال الدين الرومي. وقد تأثر به جميع المتصوفة الذين جاءوا بعده في الشرق والغرب على السواء. فقد كان من الذين تأثروا به في الغرب “دانتي” شاعر إيطاليا الكبير، الذي كان لخيالات ابن عربي دور كبير في بناء الكوميديا الإلهية عنده.

تعددت مؤلفات ابن عربي، وأشهرها “الفتوحات المكية”، وهو موسوعة ضخمة في التصوف، و: “ترجمان الأشواق”، وهو ديوان شعر في الحب الإلهي، و: “فصوص الحكم” ويُعد أهم كتب ابن عربي، حيث يتضمن خلاصة مذهبه في وحدة الوجود؛ وهي الفكرة التي تقترن ـ في تاريخ التصوف الفلسفي الإسلامي ـ باسمه. ففي مذهبه، استقرت الفكرة كمصطلح وكمضمون فلسفي صوفي؛ وفي فكره أيضًا اشتدت المواجهة الحادة بين التيارين الرئيسين في الفكر العربي الإسلامي: التيار الفلسفي العقلاني، متمثلًا بابن رشد، الذي تخلص من النزعة الصوفية بعد ابن سينا؛ وبين التيار الفلسفي الصوفي، متمثلًا بابن عربي، الذي اعتمد “الرؤيا” الغيبية أساسًا نهائيًا للمعرفة.

التصور “الدائري” للوجود
بناءً على هذه “الرؤيا”، يسعى ابن عربي في نسقه الفكري كله لإزالة التعارضات الثنائية من الوجود والمعرفة والفكر؛ ومنطلقه في ذلك “وحدة الوجود”، رغم أنه يحتفظ ـ نظريًا ـ بـ”الثنائية”، ولكن في شكل “مراتب” يمكن التمييز بينها ذهنيًا؛ بل، ويحرص على أن يُقيم ـ عمليًا ـ بين طرفي كل ثنائية وسائط عديدة، تجمع وتوحد بين هذه الثنائيات.

ومن ثم، فهو لا يرى الوجود بنية خطية هابطة من “الواحد” أو “الأول”، ولكن الوجود عنده دائرة ذات مركز ومحيط؛ حيث يُمثل المحيط دائرة الموجودات الممكنة، بينما يكون المركز هو “الله” الاسم الجامع للأسماء الإلهية، والمُعبر عن ظاهر “الذات” في الوقت نفسه. ومن مركز الدائرة ـ دائرة الوجود ـ وهو الاسم “الله” تمتد خطوط لكل نقطة من المحيط، وهي الأسماء الإلهية التي لا يحصرها عدد ولا يحيط بها إحصاء.

هذا التصور “الدائري” للوجود، وإن كان هو ما يُميز تصور ابن عربي عن غيره من التصورات الفلسفية للوجود في الفكر الإسلامي؛ إلا أنه يصل إليه عبر تأويل مفهوم “التجلي”. ذلك أن ابن عربي، والقائلين بوحدة الوجود، لا يؤمنون بالخلق من عدم، وهو ما يعرف عند غير أصحاب هذا المذهب بـ”خلق العالم”. إذ، يؤمن ابن عربي بنظرية “الفيض”؛ ومؤداها: “إن الله أبرز (أخرج) الأشياء من وجود علمي إلى وجود غيبي”. ويفسر وحدة الموجودات، في كتابه: “فصوص الحكم”، بـ: “التجلي الإلهي الدائم الذي لم يزل، ولا يزال، ظهور الحق في كل آن، فيما لا يُحصى عدده من الصور”.

وهو ما يعني: إن العالم المختلف في أشكاله، ليس سوى مظاهر متعددة لحقيقة واحدة، هي الوجود الإلهي، حسب ما تذهب نظرية الوجود. بل إن الوجود عند ابن عربي، واحد في جوهره، وأن: “وجود الأشياء أو الموجودات أو المخلوقات جميعها إنما هو الله، وليس ثمة شيء غيره”.

ويبين ابن عربي الحكمة من خلق الخلق، فيقوم بـ”تأويل خاص” للحديث القدسي، الرائج خصوصًا في دوائر التصوف: “كنت كنزًا مخفيًا لم أُعرَف، فخلقت الخلق فبي عرفوني”.. فيُقرر أن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يرى عينه ( نفسه، وجوده وفضله)، فجعل العالم مرآة له، ثم نظر فيها فظهر أدم فسماه إنسان وخليفة. بيد أن هذا، عند ابن عربي ليس أدم “الترابي” أبا البشر ولكنه النوع الإنساني. وبعبارة أخرى، شاء الحق أن يرى تعينات (مظاهر) أسماؤه في مرآة الوجود الخارجي، أو العالم، فظهر في الوجود ما ظهر، وكشف بذلك عن الكنز المخفي الذي هو الذات المطلقة، المجردة عن “العلاقات والنسب”.

أما تعدد الموجودات وكثرتها، فهو، عند ابن عربي، ليس إلا وليد الحواس الظاهرة. إذ، لما كان وجود الممكنات (الموجودات) هو عين وجود الله، فإن العقل الإنساني القاصر هو الذي يعجز عن إدراك الوحدة الذاتية للأشياء؛ فـ”الحقيقة الوجودية”، كما يؤكد ابن عربي: “واحدة في جوهرها وذاتها، متكثرة بصفاتها وأسمائها، لا تعدد فيها إلا بالاعتبارات والنسب، إذا نظرت إليها من حيث صفاتها قلت هي الخلق”. هكذا، تكون التوجهات الإلهية حاضرة في العالم، وتكون بنية العالم “بنية روحية”، ويصبح من الطبيعي أن تتعدد الظواهر المرئية رغم الرابطة الروحية الجامعة لأشتاتها، وهي الرابطة التي لا يدركها إلا “العالمون”.

وحدة الوجود.. وحدة الأديان
ويرتب ابن عربي على ذلك ما أسماه: “الإنسان الكامل”، و”وحدة الأديان”..

فيما يتعلق بـ”الإنسان الكامل”.. فإن نظرية ابن عربي، تقوم على أساس مذهبه في وحدة الوجود، وتبعًا للتأويل الذي قدمه لمفهوم “التجلي”؛ فالإنسان الكامل عنده، هو الكون الجامع، إذ لما شاء الله أن: “يرى عينه في كون جامع”، ظهر الإنسان الكامل الذي هو: “عين جلاء مرآة العالم”. ولا يقوم العالم، عند ابن عربي: “إلا بهذا الإنسان الكامل. وأسمى مظاهره يتمثل في محمد بن عبد الله (عليه الصلاة والسلام)..”؛ إذ يُعد، تبعًا لنظرية ابن عربي: “مصدر جميع الشرائع والنبوات، ومصدر جميع الأولياء والصوفية”.

أما فيما يختص بـ”وحدة الأديان”.. فهي نتيجة مترتبة على قوله بالإنسان الكامل، أو الحقيقة المحمدية. إذ، إن مصدر الأديان عند ابن عربي، واحد (وهو الحقيقة المحمدية)، فالدين كله واحد، وهو لله. والعارف على التحقيق هو من عند الله تعالى في كل مجلي (مظهر) من مجاليه.. وفي هذا يقول بن عربي: “عقد الخلائق في الإله عقائدًا.. وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه”.

بيد أن الكثيرين يرون أن هذا نوع من الغلو والشطط الذي لا مبرر له، من حيث إن العقائد والديانات تباينه، فمنها الصحيح ومنها الفاسد.. أيضًا، من جانبنا، ووفقًا لنظرية ابن عربي في “وحدة الوجود”، نرى أن ثمة اضطرابًا بين القول بقدم العالم والقول بحدوثه عند ابن عربي؛ ولاسيما نصه التالي: “الإنسان الحادث الأزلي والنشء الدائم الأبدي”. ففي هذا النص، جمع بين الحدوث والقدم في الإنسان، أي العالم؛ لأن الإنسان عنده هو “العالم الصغير”، في حين أن العالم هو “الإنسان الأكبر”. ولكن المعطيات كلها في مذهب ابن عربي، تؤدي حتمًا إلى قدم العالم.

ولعل هذا الاضطراب هو، نفسه، ما يُفسر لماذا كان ابن عربي “ظاهري” المذهب في العبادة (يعمل بظاهر الأوامر الدينية)، “باطني” المعتقد؛ بل، يُوضح ملامح الرؤية الصوفية لديه؛ حيث إن التصوف، عنده، خلق يتشبه من خلاله الإنسان بخالقه، ويُعبر عن ذلك بقوله: “سبحان من خلق الأشياء وهو عينها”.

وهنا، يبدو الاضطراب الأكبر في أطروحة ابن عربي؛ فمع جعل الوجود الخارجي وجودًا لـ”أسماء الله” وصفاته دون “الذات”، أوجد ابن عربي تفكيكًا للعلاقة بين الله والعالم من جهة، وبين “ذات” الله و”أسمائه” من جهة أخرى. وفي ما بين الجهتين، توجد “الثغرة” المعرفية بالنسبة إلى الإنسان، الذي هو عند ابن عربي “أصل العالم”.

رغم ذلك، يظل ابن عربي هو أول واضع لمذهب “وحدة الوجود” في التصوف الإسلامي، والأكثر تأثيرًا في جميع المتصوفة الذين جاءوا بعده، إلى يومنا هذا.

بواسطة
حسن معلوم - مصر
المصدر
مقال الرأي يُنشر في الجريدة ويعكس في الأساس رأي الكاتب حول الموضوع الذي كتبه ولا يعبر بالضرورة عن صوت المواطن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق